جديد المقالات

مقاربة TARL في التربية والتعليم: طريق نحو تعلم فعّال ومتكافئ للجميع

مقاربة TARL في التربية والتعليم: طريق نحو تعلم فعّال ومتكافئ للجميع

في عالمٍ يتغيّر بسرعة، لا يزال التعليم في كثير من بلداننا العربية يواجه أزمة صامتة لكنها خطيرة: أزمة التعلم.

فالتلميذ قد يجتاز سنوات دراسية متتالية دون أن يتقن مهارات أساسية كالقراءة والفهم والحساب.
هنا برزت مقاربة TARL (Teaching at the Right Level)، أو ما يُعرف بالعربية بـ التعليم حسب المستوى المناسب، كأحد أكثر النماذج فعالية في إصلاح التعليم من الجذور.

ما هي مقاربة TARL؟

TARL هي اختصار لعبارة Teaching at the Right Level، أي "التعليم في المستوى المناسب".
ظهرت هذه المقاربة لأول مرة في الهند بفضل منظمة Pratham، وهي منظمة غير حكومية عملت على تحسين تعلّم الأطفال من الأسر الفقيرة.
الفكرة بسيطة لكنها ثورية:

بدل أن نُعلّم الطفل وفق صفّه الدراسي، نُعلّمه وفق مستواه الحقيقي في القراءة والرياضيات.

ففي الصف الخامس، قد يكون بعض الأطفال يقرؤون بطلاقة، بينما لا يزال آخرون يتهجون الحروف.
هنا، يقترح نموذج TARL تجميع التلاميذ حسب مستوى التعلم وليس حسب العمر أو الصف، ثم تعليمهم بطرق مناسبة لقدراتهم الحالية.

جذور المقاربة وأهدافها الكبرى

ظهرت فكرة TARL في بداية الألفية الجديدة عندما كشفت دراسات ميدانية في الهند أن أكثر من نصف التلاميذ في الصف الخامس لا يستطيعون قراءة نص بسيط من الصف الثاني.
فبدأت منظمة Pratham في اختبار طرق جديدة لتدريس هؤلاء الأطفال بناءً على مستواهم الواقعي.
وكانت النتائج مذهلة: خلال بضعة أشهر فقط، قفزت نسب القراءة والفهم إلى مستويات غير مسبوقة.

أهداف المقاربة:

  1. تحسين تعلم الأساسيات (القراءة، الكتابة، الحساب).
  2. تقليص الفوارق بين المتعلمين داخل الصف الواحد.
  3. رفع دافعية التلاميذ للتعلم بطرق مرِحة وواقعية.
  4. تمكين المعلمين من تصميم أنشطة حسب مستوى كل مجموعة.

الفلسفة التربوية وراء TARL

تقوم مقاربة TARL على قناعة بسيطة لكنها عميقة:

“لا يمكن للتلميذ أن يتعلم شيئًا جديدًا إذا لم يُبنَ على ما يعرفه فعلاً.”

أي أن الطفل الذي لم يتقن الحروف بعد، من الخطأ أن نطالبه بقراءة فقرة طويلة.
فبدل أن يتلقى الجميع نفس الدرس بنفس الوتيرة، يحصل كل تلميذ على ما يناسبه بالضبط.

مراحل تطبيق مقاربة TARL في الفصول الدراسية

تعتمد TARL على مجموعة خطوات منهجية يمكن تلخيصها في خمس مراحل رئيسية:

1. تشخيص مستوى التعلم

يقوم المعلم باختبارات قصيرة جدًا لتحديد مستوى التلاميذ الحقيقي في القراءة والحساب.
مثلاً: قراءة فقرة قصيرة أو حل عملية جمع بسيطة.

2. تجميع التلاميذ حسب المستوى

بدلاً من الصفوف التقليدية، يتم تقسيم التلاميذ إلى مجموعات:

  • مجموعة "البدء" (لا يتقنون الحروف بعد)
  • مجموعة "القراءة الأولية"
  • مجموعة "القراءة الجيدة"
  • مجموعة "الفهم"

3. تصميم أنشطة تعليمية ممتعة

يتم استخدام أنشطة جماعية وألعاب تربوية لتحفيز المشاركة.
يصبح التعلم تجربة ممتعة لا اختبارًا مرعبًا.

4. متابعة التقدم أسبوعيًا

يقوم المعلمون بملاحظة التقدم باستمرار، وينقلون التلميذ إلى المجموعة الأعلى عند تحسنه.

5. دمج النتائج في المقرر الدراسي

تُستخدم بيانات التعلم لتكييف المناهج والتقويمات لتكون واقعية ومبنية على المستوى الحقيقي للتلاميذ.

دور المعلم في مقاربة TARL

المعلم في مقاربة TARL ليس ناقلًا للمعرفة فقط، بل هو مُيسّر ومُلاحظ ومصمم للتجارب التعليمية.
إنه المرشد الذي يقود كل متعلم نحو التعلم الذاتي بخطاه الخاصة.

مهارات يحتاجها المعلم:

  • القدرة على تشخيص مستوى التلاميذ بدقة.
  • المرونة في تغيير استراتيجيات التدريس حسب الفروق الفردية.
  • استخدام الأنشطة التفاعلية بدل الإلقاء الكلاسيكي.
  • الإيمان بأن كل تلميذ قادر على التعلم متى وُضع في المستوى المناسب.

تجربة الهند: من فكرة محلية إلى نموذج عالمي

بدأت التجربة في قرى صغيرة بالهند، ثم توسعت لتشمل ملايين التلاميذ.
في بعض المناطق، ارتفعت نسب إتقان القراءة في الصف الثالث من 15٪ إلى أكثر من 50٪ خلال عام واحد فقط!
هذه النتائج دفعت البنك الدولي ومنظمات تعليمية أخرى إلى دعم النموذج ونقله إلى بلدان أخرى مثل:

  • النيجر
  • كينيا
  • زامبيا
  • المغرب (في بعض المشاريع التجريبية)

تطبيق مقاربة TARL في السياق العربي

بدأت بعض الدول العربية مؤخرًا في التفكير بتبني مقاربة مشابهة، خصوصًا في مواجهة ضعف التحصيل الدراسي بعد جائحة كورونا.
ففي المغرب مثلًا، أطلقت بعض المبادرات النموذجية لتجريب التعليم حسب المستوى المناسب في المناطق القروية.
وفي تونس ومصر، تُناقش الفكرة ضمن خطط إصلاح التعليم الأساسي.

التحديات التي تواجه التطبيق:

  1. العدد الكبير للتلاميذ في القسم الواحد.
  2. قلة تكوين المعلمين في التشخيص البيداغوجي.
  3. جمود البرامج الدراسية الرسمية.
  4. نقص الموارد التعليمية والألعاب البيداغوجية.

لكن رغم ذلك، يظل النموذج واعدًا جدًا إذا ما تم تكييفه مع الواقع المحلي.

مقارنة بين TARL والمقاربات التقليدية

المقاربة الأساس المعتمد دور المعلم تنظيم التلاميذ النتيجة المتوقعة
التقليدية المستوى العمري والصف الدراسي ملقّن وموجّه صف موحّد تفاوت كبير بين التلاميذ
TARL المستوى الفعلي للمتعلمين ميسّر ومتابع مجموعات حسب المستوى تعلم متكافئ وتحسّن شامل

أثر TARL على المتعلمين

  • تحسين واضح في المهارات الأساسية.
  • زيادة الثقة بالنفس لدى المتعثرين.
  • تحفيز التلاميذ المتفوقين على التعلم الذاتي.
  • خلق بيئة صفية إيجابية تقوم على التعاون بدل التنافس.

أثر TARL على النظام التعليمي ككل

عندما تطبَّق المقاربة على نطاق واسع، فإنها:

  • تُقلّل من نسب الرسوب والتسرب المدرسي.
  • ترفع جودة التعليم دون كلفة مالية كبيرة.
  • تعيد الثقة في المدرسة كمؤسسة قادرة على إنصاف الجميع.

ولهذا، يعتبرها الخبراء من أنجع المقاربات البيداغوجية في القرن الواحد والعشرين.

نقد وملاحظات حول المقاربة

رغم نجاحها، تواجه مقاربة TARL بعض الانتقادات:

  1. أنها تركّز على المهارات الأساسية فقط وقد تُهمل باقي المواد.
  2. تحتاج إلى إرادة سياسية وتغيير هيكلي في النظام التعليمي.
  3. نجاحها مرهون بكفاءة المعلمين في التنفيذ الميداني.

لكن هذه التحديات يمكن تجاوزها بالتدريب والدعم والتدرّج في التطبيق.

مستقبل TARL في العالم العربي

إذا تم تبني مقاربة TARL بذكاء، يمكن أن تُصبح حجر الأساس لإصلاح التعليم العربي.
تخيل أن كل طفل يتعلم بالوتيرة التي تناسبه، دون خوف أو مقارنة، وأن كل معلم يمتلك الأدوات اللازمة لتشخيص الصعوبات.
هذا ليس حلمًا... بل رؤية قابلة للتحقق.

خاتمة: تعليم يُراعي الإنسان قبل المنهاج

تُعيد مقاربة TARL تعريف جوهر التعليم: التعلم من أجل الفهم، لا من أجل الانتقال في الصفوف.
إنها دعوة لأنسنة المدرسة، ولإعادة الاعتبار إلى التلميذ ككائن متفرد، له إيقاعه الخاص في الفهم والنمو.
فإذا أردنا نظامًا تعليميًا فعّالًا ومتكافئًا، فعلينا أن نبدأ من حيث يقف المتعلم، لا من حيث نريد نحن أن يكون.


الكاتب
الكاتب